السبت، 31 مارس 2012

أستاذى فايز البـسنلى.

" صغيراً فى المدرسة الإبتدائية"
      أستاذى                                   فايزالبسنلـى

- قضيت خمـس سنوات من طفولتى بالمملكة العربية السعودية ، رافقت فيها مع باقى الأسرة - والدى - الذى كان معاراً للعمل هناك .
و الحق يقال أنى لا أستطيع أن أصف تلك الفترة سوى بأنها كانت من أسعد فترات حياتى ، و أكثرها تأثيراً على أفكارى و سـلوكى و معتـقداتى .
كنـا نقيـم ببلـدة فى منطــقة " سـدير "  هـى مـدينة       " المجمعة " و كنت تلميذاً بمدرسة " الخـالـدية  الإبتدائية " و هى مدرسة واسعة ، بها الكثير من الملاعب و المعامل و الوسائل التعليمية المبهرة التى كانت قمة فى التكنولوجيا العالمية فى هذا الوقت ، و كان من حسن حظى أن ينعم الله على برائد للفصل إستثنائى ، فهـو معلم سـورى الجنسية ، حاصـل على الدكتـوراة فى التربية ! ....... نعم الدكتوراة !!!
كان الأستاذ " فايز البسنلى " - وهذا هو اسمه - تكويناً مثالياً رائعاً لما يجب أن يكون عليه المعلم ! فبالإضافة إلى أناقته ورابطة عنقه الزاهية دائمــــا و سـيارته     " المرسيدس " البيضاء - التى كانت دائماً ما تفصح عن ذوق راق خاصة ، وسط السيارات الأمريكية الضخمة التى كان السـعوديون يفضلون ركوبها .
كان هذا الرجل على درجة عالية جداً من الثقافة الموسوعية ، فهو خبير لايضاهى فى التاريخ العربى و الإسلامى ، مثقف كبير ، جال بين أمهات الكتب العربية و وقر فى قلبه سحر حكيها و نبل و أصالة ما فيها !
هو لا يحدثك إطلاقاً إلا عما يعرف ، أما إذا كان الموضوع مجهولاً بالنسبة له ، أو لا يمتلك ما يكفيه من المعلومات عنه فتأكد أنه سيعتذر لك عن الحديث فيه ، و يعدك وعداً واجب الوفاء بالرد عليه لاحقاً بعد ان يطلع عليه ويدرس جوانبه ! 
 لم تكن سطوته داخل الفصل مستمدة من رهاب العصى أو خوف التوبيخ ـ لكنها ـ كانت مستمدة من تعـويذة إلقائه و سرده و تبسيطه للمعلومات بشكل يحفرها فى العقل و الوجدان .

هو منحاز للعروبة و للقادة المسلمين العظام لفروسيتهم و خلقهم و مبادئهم السمحة رغم قوة بأسهم
هو منحاز للوحدة و للغة العربية و الأدب و التهذيب و فن التعامل . 
الأكثر من ذلك أنك لا تسجل إطلاقاً عليه هفوة أو تلميحة خارج هذا السياق فهو حريص ألا تكون تلميذه فقط - بل - تكون من مريديه و هو يعلم أن النقاء فى صدورنا الصغيرة لا يبحث ببوصلة طهارته إلا عن المثل .

فى إحدى الحصص و كان يدرس لنا مادة العلوم " ضمن مواد كثيرة يدرسها لنا " ....
وقف الأستاذ" فـايز" أمـامنـا فى معمـل الكيمياء حامـلاً أنبـوبة إختبـار بماسـك معدنى فوق لـهب   " بنزن" ..... كان بداخل الأنبوب شمع متكسر و كان يقوم بصهره على حرارة اللهب شارحاً ذلك الـدرس البـدائى الشـهير " تحـويل الأجسـام الصـلبة و السـائلة و الغـازية إلى بعضـهم البعـض "  - و هنا - نادانى الأستاذ " فايز" و أعطانى الماسك لأحمل بنفسى أنبوب الإختبار و أكمل إجراء التجربة لكنى لم أكن أعرف أن الماسك لا يحتاج لأى ضغط كى يحتضن الأنبوب - لذا - فبمجرد إستلامه من يد الأستاذ " فايز" ضغطت عليه فانفرج متخلياً عن أنبوبه التى هوت إلى منضدة المعمل لتتحطم و يتناثر ما بداخلها من شمع سائل فى كافة الأرجاء .

فلنوقف المشهد إلى هنا و لنتخيل لو دار مثل هذا الحدث بين طالب مثلى و مدرس فى المرحلة الإبتدائية داخل إحدى المدارس المصرية ... ترى ما كان سيحدث؟!
هل سيكون رد الفعل : صبغ بعض الوصوف الحيوانية على شخصى ؟
أم سيكون : عقاباً مؤلماً بعصى مكتنزة من الخيرزان ؟
هل سأسمع  كلاماًعن : تحطيمى لعهدة حكومية ! و حرمان زملائى فى المستقبل من إستخدام ما كسرته ؟
هى ردود أتركها لعنان خيالكم و تجاربكم .

و لكن إسمحوا لى بأن أستكمل لكم المشهد و أسرد رده فعل أستاذى العزيز" فايز البسنلى" الذى إبتسم فور تحطم الأنبوب و تلقف من بديهته الحاضرة ما يستكمل درسه !
لقد صاح الأستاذ " فايز " بفرح و قال :
زميلكم " محمد " برهن لكم الآن أن بعض المواد تتحول أيضاً من سائلة إلى صلبة !
ثم نظر لى بامتنان و أنا غارق فى هول ماحدث ، ثم قال :
    - شكراً يا محمد وفرت علينا لمجهود !
و يا للعجب فقد أمر الفصل كله ، أن يصفق لى !

و فى حصة أخرى - كانت عن جغرافيا الوطن العربى -  تطرق الحديث عن " قناة السويس "  و هنا عرض لنا الأستاذ " فايز" فيلماً سينمائياً ملوناً عن " قناة السويس " ......... كان الفيلم مقاس ( 16 ملم ) و هو إنتاج حديث - فى ذلك الوقت - لإحـدى الشركات الإنجليزية الضخمة .
راح الأستاذ " فايز" يشرح عن " قناة السويس " بوله العربى العاشق و راح يتحدث عن مصر بإحترام الواعى ثم إنطلق الفيلم فى سرده ليرينا كيف عبر المصريون القناة فى حرب " أكتوبر " المجيدة  ...
و هنا إنبرى الأستاذ " فايز " و تحدث حديث رفقاء السلاح و كيف كانت حرب أكتوبر ثأراً و مجداً للعرب كلهم .
كانت المدرسة تضم فى تلاميذها العديد من الجنسيات العربية ـ أردنيين ، فلسطينيين ، سوريين ، سودانيين بالإضافة طبعاً إلى السعوديين ـ رغم ذلك لم يكن يحمل الجنسية المصرية ســــــــواى و تلميذ آخر سكندرى إسمه " حسن " .
والحق يقال أن بعد عرض الفيلم بما فيه من ( لقطات مؤثرة لدك الحصون الإسرائيلية بالطيران المصرى و فرد الكوبرى العائم و عبور دباباتنا الواثقة فوقه ) تحولت أنا و " حسن" إلى نجوم بين التلاميذ ، وأصبح لنا مريدينا وقت الفسحة لنروى لهم ما نعلمه ، و ما تأتى به قرائحنا من تصورات طفولية عن حرب " أكتوبر " ـ و لم لا ـ و نحن ملاك الطائرات و الدبابات و قبل كل ذلك { المنتصـــــــــــــــرون } .
لقد كان لشرح الأستاذ " فايز" المصاحب للفيلم بالغ التأثير فى النفوس و كان الفيلم ومضة لفتت نظرى بعد ذلك لشئ هام .. أن فى الحياة وسيلة لها قوة رائعة فى الإتصال و التأثير على وجدان الناس اسمها  " السينما " .

لم أقصد فى حديثى عن الأستاذ " فايز البسنلى " أن أهجو أو أنال و لو من بعيد بالمعلم المصرى فزوجتى معلمة و أعلم جيداً ما يعانيه المعلم المصرى من ضغوط و ظروف تنحت شخصيته و تصيغ تصرفاته ـ لكننى أردت أن ألقى الضوء على نموذج مثالى أثر فى وجدانى كتلميذ تأثيراً إيجابياً عشت به حتى الآن ... فربما ذلك يكون وسيلة لإستقراء ما يجب أن يكون عليه المعلم لدى القائمين على الأمر .

تحياتى إلى أستاذى العزيز " فايز البسنلى " أينما كان !

فإن كنت لا تزال تتنفس هواءنا ، فباقة زهر لك منى !
و إن كنت تعانى من آلام سوريا الحبيبة ، فلعل كلماتى تضمد بعضاً من جراحك !
أما إن كنت فى معية الله ، فربما كلماتى تصوغ جزءاً من رضى يستوجب لك الرحمة !

هناك 5 تعليقات:

  1. الرحمة لروحه الطاهره غفر الله له وجزاكم خيرا فلقد انعشت قلبنا وعقلنا بمأثر والدنا المرحوم فايز البسنلي حيث وافته المنيه عام 1992 في السعوديه على راس عمله بعمر 52 عام قضاه مخلص ومتفانيا بعمله مؤمننا برسالة مع الشكر الجزيل لوفائكم رغم الزمن متمنيا لكم التوفيق والنجاح فراس محمد فايز البسنلي

    ردحذف
    الردود
    1. كل التحية لك أخى الحبيب وابن أستاذى الحبيب ..... أشكرك وأرجو أن أسعد بالتواصل معك ... وأرجو إن كان هناك فرصة لإهدائى صورة لأستاذى الجليل ، سأكون شاكراً جداً ...
      وهذا عنوانى على الفيس بوك
      https://www.facebook.com/mohamed.shorbagy.5

      حذف
    2. مساء الخير استاذ فارس الرجاء الدعاء لوالدي بالرحمة و المغفرة فقد وافته المنية ذلك العام يوم 23 من شهر فبراير عن عمر ال 53، أرجو من الله أن تتذكره في دعائك، فهو كان يحب والدك و كثيرًا ما كان يحكي لنا عنه، رحمة الله عليهما و نسأل الله أن يكونا في الجنة.

      حذف