شقة المصورين
بدأت حياتى العملية ، مصوراًبالقناة الخامسة -تليفزيون الأسكندرية حالياً - وكان مايشغلنى حين وصلت للأسكندرية الساحرة لأول مرة ، كيف سأقيم بها ؟ وأين سيكون مكان السكن ؟
شغلتنى أيضـاً الصحبة ! فأنا من المؤمنين بما قالـه ( جان بول سارتر ) من أن الجحيم هم الآخرون ! وكان حظى السعيد - من وجهة نظرى بالطبع - أنى حيـن رحلت من بلدى - المحلة الكبرى -إلى مدينة القاهرة لدراسة السينما قطنت - وحيداً- فى شقة نملكها فى القاهرة ، و كانت السعادة لدى فى تلك الوحدة التى تتيح لـك الحرية التامة فى كل شىء وأى شيء ، فأنت تملك وقتك وفراشك وطعامك ، تسمع ماتشاء من موسيقى وأغانى تحبها وبإرتفاع الصوت المناسب فقط لحالتك المزاجية ، لايعبث أحد فى كتبك ومحاضراتك أو يضيع أقلامك وادواتك ، إختصاراًلم أجد من يعكر صفوى أويذهب بسلامى النفسى ، وفى حال رغبتى فى التواصل أو التسامر ، كان يحضر لى الزملاء والأصدقاء أو أذهب إليهم ، والحقيقة - لمن لايعرف - أن الدراسة فى معهد السينما كانت لها تبعات كثيرة مؤنسة فى حد ذاتها فنحن دائماً نشاهد الأفلام فى الأمسيات الثقافية والسينمائية أو نتجول فى أحد الأتلييهات لنشاهد وننبهر بالفن التشكيلى بمختلف قوالبه ، أو حتى نتصعلك فى شوارع القاهرة القديمة ، لنشحن طاقاتنا الإبداعية بثراء الناس والأحداث وسحر الأماكن .
الحقيقة لم يترك الأستاذ / وائل عبد المجيد - رئيس القناة الخامسة فى هذا الوقت - الفرصة أمامى للحيرة، بل بادرنى وأنا فى مكتبه لإتمام إجراء التعيين وأخرج لى مفتاحاً! وحين تعجبت أفهمنى أن مشكلة إقامتى بالأسكندرية محلولة لأن التليفزيون باختصار يستأجر إستراحتين - خصيصاًللمصورين نظراًلندرتهم والحاجة المستمرة وراء إنتداب الكثير منهم من التليفزيون الأم بالقاهرة لاستكمال أعمال التصوير بالقناة.
وعليه فقد ذهبت للشقة الموجودة بإحدى عمارات الضباط فى شارع المعسكر الرومانى ، وهوشارع من أرقى شوارع الأسكندرية نظراً لأنه يقع بمنطقة رشدى الرائعة سكناً وناساً وخدماتاً أيضاً.
قال لى الأستاذ / وائل أن الشقة يقطن بها ثلاثة من الزملاء الأقدم عملاً بالقناة ، و كان محقاً، لذا فقد أغلقت ذهنى على أن شركائى سيكونوا الثلاثة فقط !
ولكن هيهات فبعد إسبوع واحد إستوعبت الحقيقة حيث بدا يتوافد علينا مصورى الإنتداب، و تحولت الشقة إلى محفـل كبير لغرباء عنى لاأعرفهم ! يتضاحكون بأصوات عالية ، يدخنون بشراهة ، ولا يملوا من إسهاب الحديث !
كنت أهرب بعد العمل إلى هدوء الجلوس على البحر, أتأمل تلك الأضواء المتلئلئة لسفن الصيد القابعة فى غياهب الأفق ، ولابأس من إحتساء الشاى من أحد الباعة الجائلين ، ولكنى أعترف أن الملل إعترانى بعد مرة أو مرتين وبدأت أتوق للعودة للمنزل لنيل قسط من الراحة ، خاصة مع عناء العمل لساعات طويلة ، مريرة ، طوال اليوم !
و لكن شقة المصـورين لاتهـدأ ولا تنـام ! الكل يسـهر ويأكل ويشـرب حتى الصبـاح ! والإستعداد لاستقبال اليوم الجديد دون نوم وارد ! تحد غريب للسكون والراحة رغم عنائهم وإجهادهم مثلى ! وكنت أجاهد - فى البداية - لاستقبال النوم وسط صخبهم العارم ، إلى أن فوجئت باعتياد الأمر بل والتحول إلى مذهبهم فى النهاية - ( لاشىء أهم من أن تحيا وتنعم بالصحبة والسهر ) !
كانت تلك هى بداية إستقبال شقة المصورين فى عالمى المتواضع الهادىء ، التى مالبثت بعد ذلك وأن إكتشفت أنها كنز إجتماعى وإنسانى فريد ! فقد كانت تلك الشقة بمثابة منتدى رائع يجمع بين زملاء جمعتهم الدراسة والمهنة الواحدة ، رغم إختلافاتهم الجوهرية فى كل شيىء ، الثقافة ، الطبقة الإجتماعية ، الميول و التصرفات ، مسقط الرأس و العشيرة و أحياناً ايضاً الديانة ! كانت شقة المصورين صورة مصغرة من جمهورية مصر العربية ، بما فيها من زخم وتباين وأحياناًأيضاًتناغم ! لعل ذلك كان مصدر الصوت العال فى إحتدام الحوارات بعد منتصف الليل ، وهو أيضاً مصدر القهقهات المتضافرة حين الإتفاق ! أتى كل منا بأصدقائه من خارج العمل ليجالسه و يتعرف عليه الآخرون ، دعم كل منا الآخر بالنصيحة والتجربة ، و اقتسمنا الطعام - أى طعام - و أى بقايا - إذا ما خلت الثلاجة منه !
رصد كل منا حياة الآخر وأصبح يعرف عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه ! كيف يحب ؟ و كيف يكره ؟! و أصبحت الشقة دولة لها جنسية و تأثيرًا فى العمل ، تحيز من فيها لبعضهم البعض و دعم كل منهم الآخر فى كل شيء وسعى لاحتواء مشاكله و حلها فى حينها بأى ثمن او مجهود !
بالشقة كانت بدايات لقصص حب تنتهى بالفشل كثيراً و بالزواج أحياناَ و كانت أيضاً نادياً للتعرف على مهاراتنا الفردية فى العديد من الأشياء المدهشة ، فهذا له خبرة بالتحف و المزادات ، و هذا له باع فى التسويق و الإعلانات التجارية ، و هذا له باع فى الرسم و الكتابة ، فنانون و شعراء و تجار و أيضاً تافهون فى بعض الأحيان ، ذلك كان العالم فى تلك الشقة التى أثرت حياتنا و ربطتنا بها بقوة و قسوة أحياناً للدرجة التى كانت تعود باحدهم من شقته بعد الزواج ليواصل السهروالحديث و ربما البيات أيضاً حين تغضب الزوجة أو تهرع لبيت أهلها للولادة !
لو دخلت فجأة فى أحد حوارات العمل فتأكد أنك لن تفهم شيئاً من الحديث إذا لم تكن متخصصاً ! أما إذا سولت لك نفسك وحضرت مشاهدة من فى الشقة لأحد الأفلام ، فثق أنك قد تخليت تماماً عن رأسك ! فأنت فى حارة المتخصصين ممن ينتقدون حركة الكاميرا و المخرج و السيناريو ، و أحياناً مدى حسن البطلة وكمية ماكشفته من مفاتنها المندثرة !
فجأة إختفى كل من فى الشقة ، هذا تزوج ، و هذا رحل فى عقد للسعودية ،و هذا نجح فى النقل لقناة أخرى ، و ضللت وحدى فترة قبل أن أبتاع شقة جديدة لنفسى كنواة للإسقلال و الزواج فى المستقبل ، و رغم إنتقالى للإقامة فى شقتى إلا أن مفتاح شقة المصورين ظل معى ، و ظللت أتردد عليها من آن لآخر ، أجلس وسط صالتها فى سكون ليرن صدى أصوات زملائى فى أذنى قادماًمن الأيام الخوالِ!
و حين قابلنى بواب العمارة ليخبرنى بموعد تسليم الشقة لصاحبها - نظراً لعدم تجديد التعاقد معه من قبل التليفزيون - نقدته مبلغاًمحترماً و طلبت منه إحضار من يعدها ترتيباً و تنضيفاً لتصبح كعروس تذهب إلى زفافها ، و ذهبت بنفسى مرة أخرى للتأكد من تكريمها بالشكل المناسب لها ، و فى تلك المرة ودعتها بقراءة الفاتحة فى كل غرفها كل غرفة على حدة ، و انتهيت بالصلاة فى صالتها الواسعة ركعتين شكراً لله على مامنحنا فيها من سعادة و توفيق و سلام كنت أشعر أنى لا أودع جدراناً و أركاناً - بل - أودع جزءاً عزيزاً مفعم بالذكريات من حياتى ، الحقيقة كنت أودع وطن !
ولا أروع ....عدت بنا الى لحظات كادت تذوب في زحام الحياة .....
ردحذفمبروك المدونه يا صديقى العزيز ..ستبقى واحة ريانه فى جدب الإنترنت ..نعرج اليها فى أوقات نشتاق فيها إلى دفء مشاعر فنان ..مرهف الحس ..رقيق المشاعر لعل دفئه ينفذ إلى قلوبنا التى جمدها صقيع الحياه ...........عادل المسيرى
ردحذفكم انت رائع وكم هي رائعة كتاباتك .. خالص تحياتي زميلي الفنان
ردحذفمع خالص لأمنياتي لك بالتوفيق
سعيد حموده
مقال رائع .. من فنان حقيقي
ردحذفwww.dedalum.at.ua
شكراً شكراً وتمنياتى لك الأصدقاء بالصحة والسعادة ,والتوفيق من الله .
ردحذف