 |
د." محسن أحمد " مع إحدى جوائزه المتعددة . |
اسمه : محـسن أحـمد
ـ لنتفق أولاً قبل فى الحديث !
لست هنا بصدد كتابة مقال نقدى ! . . فأنا هنا سأتحدث من وجهة نظر ذاتية عن علاقة تلميذ بأستاذ ، و هو ما لا يتسق أبداًمع طبيعة النقد ، فالعكس هو المفروض ! أن ينتقد الأستاذ تلميذه و يقيم عمله !
أيضاًسأمنح نفسى حق الإنطلاق من واقع الإعجاب و التأمل ، فى عالم فنان ، أطلق فنه - بمحض إراته الحرة - إلى عامة الناس ، و بالتالى منحهم - ضمنياً - حق الإبحار و التجول فى أرجاءه و سماته شأن كل متذوق و عادة كل مريد !
- بدأت علاقتى منذ زمن بعيد بمدير التصوير السينمائى الكبير / " محسن أحمد " - ( علاقة غير مرئية ، من طرف واحد ! ) - كنت لا أزال تلميذاً صغيراً ، مهتماً بالتصوير و السينما و صادف أن شاهدت إحدى حلقات برنامج " زوم " لسلمى الشماع و كانت الحلقة عن ( كواليس ) فيلم " البداية " الذى عاد به علم الواقعية المصرية " صلاح أبوسيف " مرة أخرى للإخراج بعد غيبة طويلة ، و فى البرنامج تطرق الحديث إلى مدير تصوير الفيلم الشاب " محسن أحمد " ومـدى ثقة " صـلاح أبو سيف " فى ملكاته و قدراته للدرجة التى جعلته ينحى الكثير من مديرى التصوير الكبار - ذوى الأسماء اللامعة فى هذا الوقت - ليستعين بذلك الواعد الذى شارك ابنه المخرج " محمد أبو سيف " تصوير العديد من الإعلانات التجارية لا فتاً نظره إليه بحسه و قوة مهاراته .
- و الحق - من و جهة نظرى - أن التزاوج بين جيل " صلاح أبو سيف " الكلاسيكى ، المتمسك بالأصول والقواعد حتى النخاع ، وجيل " محسن أحمد " المتبرعم فى أحضان " الواقعية الجديدة " بما ابتدعته من ثورة على المألوف و ثورة على كل القوالب و القواعد ، الحق أنه كان تزاوجاً غريباً ملفتاً للنظر !
 |
لقطات متعددة من فيلم " البداية " . |
لكن كلمة السر فى هذا التزاوج كانت هى نوع الفيلم فى حد ذاته ! ففيلم " البداية " كان فى واقع الحال بمثابة ضربة فنية جديدة ترسى ل " فنتازيا " مصرية ، ذات صلة وطيدة ب " فنتازيا " الإيطالى الشهير " فريديريكو فللينى " !
لقد أراد " صلاح أبو سيف " - المحنك - أن يتناول ( إكسير الحياة السينمائى ) و يعود إلى ميدان الإبداع - شاباً- بسينما جديدة و فكر بكر ، يطوى صفحة من الإنجاز الفنى لصالح التجديد ، وكان سفيره إلى ذلك العالم و تلك الأرض - بلا شك - هو " محسن أحمد " .
- شاهدت " محسن أحمد " و هو يحتضن الكاميرا بتمكن و وجه مكتس بالجدية و الإخلاص و هو ما جعلنى أتوق بكل شوق لأشاهد - ذات يوم - ما صوره بكل هذه الجدية !
لكن الفيلم لم يتاح لى - مع الأسف - في إحدى سينيمات مدينتى ( المحلة الكبرى ) !
- ثم مرة أخرى ، تقع فى يدى جريدة " الأهـرام " فأجد فى صفحتها الأخيرة صورة ل " محسن أحمد " و قد انكمش داخل حقيبة سيارة و فى يده كاميرته السينمائية ، ليصور إحدى اللقطات !
 |
د. " محسن أحمد " يصور إحدى لقطات فيلم " المطارد " و بجواره مخرج الفيلم د . " سمير سيف " .
|
|
تحت الصورة كانت العبارات تصف جراءته ومغامرته و استعداده فى تجاوز كل الصعوبات من أجل خروج لقطاته كما ينبغى أن تكون ! .... حتى لو عرضه ذلك للخطر أو الإصابة !
- كنت فى هذا الوقت هاوياً للتصوير " الفوتوغرافى " و كان عالم التصوير المتحرك يجذبنى كثيراً ، فلم تكن فى هذا الوقت كاميرات " الفيديو " قد انتشرت كما هى الآن و لا أصحبت فى أيدى الجميع ، قابعة داخل هواتفهم النقالة !
رحت - فى مراهقة - أحاول أن أنثنى داخل أركان المنزل ، و أضع الكاميرا الفوتوغرافية على عينى لأطالع ما يمكن أن تراه من تلك الزوايا الغريبة ! و ربما أتابع أحد أفراد أسرتى و أعطيه بعضاً من الأوامر الإخراجية - التى أعلم مسبقاً أنه بالقطع لن يستجيب لها !
فتنت ! فتنت بالكاميرا و المصور السينمائى ، الذى نادراً ما يتحدث عنه أحد ، على الرغم من أنه المهنى الأول فى هذا الفن !
فـإذا سـألت التـاريخ عـن بدايـات السـينما سـيجيبك بأن كل رواد البداية ، مثـل " لـويـس داجيـيـر " و " الأخـوان لـومـيير " كانوا فى الأصل مصوريين !
لقد ألهبت أخبار " محسن أحمد " خيالى ، فهذا ما أتوق إليه ! أن أحتضن تلك الساحرة المسماة بالكاميرا - صندوق أسرار الفيلم السينمائى الذى يجمع رحيق إبداع المخرج و مهندس الديكور و المؤلف و نجوم التمثيل و كذلك الفنى و العامل ، ثم يقف عليه شخص واحد أميناً و حارساً ، يحمل فى صدره مفاتيح شفراته و تلمع فى عينه إنعكاس ما يحويه ، و تجد أنامله دائماً منه رضا الإستجابة و الإذعان - هكذا هو المصور السينمائى ، أمين صندوق السحر و الإبداع ، مؤتمن الأسرار ، و سادن هذا الفن الرفيع !
 |
د . " محسن أحمد " يدير تصوير فيلم " المطارد " و الصورة من تصوير النجم " نور الشريف ". |
- مرت الأيام و استجاب " الله " تعالى لدعائى فتحققت أسمى أمانى حياتى ، و هى الإلتحاق بالمعهد العالى للسينما .
و فى اليوم الأول داخل المعهد التقى بدفعتى العميد " د . مصطفى محمد على " رحمه الله " و الذى كان بالمصادفة أيضاً أستاذاً للتصوير ! كان اللقاء داخل قاعة عرض " 35 " و المخصصة لعرض الأفلام من مقاس " 35 ملم " ، و ياللعجب فقد كان أول فيــلم يعرض لنا داخـل هذه القـاعة - بعد حديث العميد لنا مباشـرة - هو فيــلم " البداية " !
و كم كان الفيلم رائعاً متدفقاً ! أخيراً تحقق لى أن أشاهد هذا الفيلم و كأن القدر يحقق لى كل ما اتمناه تباعاً !
- كانت الحياة فى معهد السينما بالنسبة لى كالحياة فى " العالم المسحور" ، فأنت تنهل من آن لآخر من نهر ما تحب و ترى نجوماً فى فن عشقته يحدثوك و تحدثهم ، تسألـــــهم و يجيبوك ، و لا يجدوا مانعاً فى الجلوس معك أحياناً على درجات السلم أو على مقاعد الكافيتيريا ليشرحوا لك ما تريد !
لم تكن درجاتهم العلمية تكبح تدفقهم الإنسانى أو تعرقل لديهم حرية التصرف كفنانين فى الأساس ! لذا فقد سارعت بالإنقضاض على أى أستاذ أو أى فنان لإقتحام صناديق كنوزه ، محاولاً احتراز أكبر عدد من المعلومات و الحصول على إجابات على كل مايجول بخاطرى من أسئلة ملحة !
و فجأة وجدت أحدهم يخبر آخر أن " محسن أحمد " موجود بالدور العلوى ، داخل قسم " التصوير " !
( محسن أحمد يا جدعان ) ! ............................ ( موجود ) ! .......
هو كائن بشرى إذاً يمكن رؤيته و الحديث معه ؟!
شحذت أفكارى فى ثوان معدودة ! أعددت سيلاً من أسئلة الإقتحام ، و شهرت على وجهى قنـاع الفضول ، ثم أطلقت لأقدامى عنان الركض على سلم المعهد مجتازاً الأدوار و المسافات ، حتى و صلت لبلاتوه قسم التصوير!
دلفت بحذر و انبهار لأجد مجموعة من طلبة " البكالوريوس " و هم يقفـون ليؤدوا تدريباً فى الإضـاءة ، و ياللهول ! فقد وجدت المصور الكبير الأستاذ " وحيد فريد " !
 |
صورة نادرة للأستاذ / وحيد فريد ، حصلت عليها بصعوبة بالغة لعدم وجود صور له على الإنترنت ، تقريباً! |
كان " وحيد فريد " واقفاً بكبريائه المعهود ، و قد أمسك فى يمناه كوباً من الشاى و إلى جواره يقف ضالتى المنشودة " محسن أحمد " .
كان الحديث بينهما ودياً و لفت نظرى ذلك الإحترام البالغ و الأدب الجـم الذى يتحـدث بـه " محسن أحمد " إليه .
و الحق يقال ، أنى لم أكن مهتماً إطلاقاً ب " وحيد فريد " و لا بتاريخه المجيد ، الذى لا ينكره أى مصور سينمائى مصرى او عربى !
إنما كنت مهتماً بذلك الرجل الذى ورطنى فى حبه وعشق عمله !
كنت أشعر أن بينى و بين " محسن أحمد " تعاقد ما - قديم - على لقاء ما حتمى ، وها هو اللقاء يحدث و عليه أن يفى بدين الحب و التقدير الذى يحتله فى وجدانى ، بأن يجيب على أسئلتى و يحتفى بى !
و باغته بمزيد من الثقة لأفتتح الحديث بأن أشرت إلى أحد المصابيح المستخدمة فى إضاءة التدريب و سألت :
- من فضلك هو الكشاف ده كام كيلو يا أستاذ ؟
و هنا توقفت عجلة الكون عن الدوران !.... و أكتسى المكان بالصمت !.... و لمحت نظرات السخرية فى وجه زملاء الفرقة الرابعة ، و قد أدركوا ما سيحدث لى بعد قليل !
لقد نظر لى " وحيد فريد " رحمه الله ، كما ينظر ساكن أقصى أدوار - " برج العرب بدبى " - إلى طفل صغير ، يقف فى الشارع لينشد منه قطعة من الحلوى ! ثم تحرك " محسن أحمد " ونظر لى بوجه تكسوه الجدية :
- انت مين ؟!
فأجبت : أنا " محمد الشوربجى " طالب بسنة أولى تصوير !
رفع " وحيد فريد " بصره من على و ارتشف بعضاً من شايه وكأن الأمر لايعنيه ! بينما هدأت حدة الجدية على وجه " محسن أحمد " و هو يقول :
- أيوه ، طيب يا " محمد " و إيه اللى طلعك هنا ؟!
و قبل أن أجيب ، أردف قائلاً :
- لسه بدرى قوى عليك لما تطلع هنا ! يللا اتفضل إرجع مكانك !
لم أدرى - بعد ذلك - كيف قطعت سلالم الهبوط إلى فناء " المعهد " السفلى ؟!
كنت مندهشاً ، مصدوماً ، عقلى يعمل بسرعة جاهداً لمحاولة إحتواء خجلى و البحث عن مبرر لرده الفعل تلك ، الغير متوقعة !
ألا يعرف هذا الرجل أننى قد دخلت إلى هذا المكان و أنا " الأول " على كل المتقدمين للقسم ؟! بعد إجتياز ثلاثة إختبارات صعبة ، بدون " واسطة " !
ألا يعلم أننى قبل سنة من دخولى المعهد أشتركت فى مسابقة للتصوير الفوتوغرافى ، على مستوى الجمهورية ، و كان ترتيبى فيها هو أيضاً " الأول " ؟!
ثم ماذا فعلت ؟! ... لقد فعلت ذلك مع أساتذة آخرين - كثر - و لم يصدنى أحدهم بذلك الحائط الفولاذى من قبل ؟!
حسناًعلى أن أعيد ترتيب أوراقى و أن أبتعد عنه ، و أتجنبه إذا رأيته بعد ذلك ! لأحافظ على ما تبقى لى من كبرياء !
مرت الأيام و اجتهدت و احتفظت لنفسى بلقب " الأول " على قسم التصوير ، و فى السنة الثالثة ، اختلفت مـع أحد المعيدين حـول موضوع ما ، و توجهت لمكتب العميـد لأحـتج لديه ممـا حـدث ... كـان " محسـن أحمـد " واقفاً ، و فـوجئت به يتدخـل فى الحـوار و هـو ينظر لى بشىء مـن التضامن و المناصرة !
سحبنى من يدى بعد أن تكفل أمام العميد د . " شوقى على " بحل المشكلة !
. |
د . " محسن أحمد " يقوم بعملية القياس الضوئى و إبداع النسب بين مصادر الإضاءة ، و هو عمل بالغ الإحترافية تتجلى فيه الخبرة الفنية و العملية . |
ذهبت مع " محسن أحمد " إلى حديقة المعهد فوجدت إنساناً غير ما صدمت به بالأمس !
أنصت لى جيداً ، ثم تحدث بلباقة و دماثة فحكى لى عن تجاربه الإنسانية فى التعامل ، و أقنعنى أن ما أتصوره من ظلم قد وقع لى ، هو مجرد شىء عادى وارد الحدوث ، لا ينبغى الإنغلاق ذهنياً امامه !
و أمام هذا التدفق الإنسانى - من شخص لم أستطيع منع إستدعاء إعجابى القديم به -
تقبلت النصحية ، خاصة و أن جائزتى عن ذلك كانت حاضرة ، و هى بداية ود و معرفة حقيقية بينى و بين هذا الرجل ، الذى أقدره !
بعد ذلك ، كشف لى القدر السر ، حين تناقشت مع أحد الأساتذة - فى وقت فراغ - و ذكرت ما حدث بينى و بين " محسن أحمد " فى اللقاء الأول ، فقد فسر لى ذلك الأستاذ ، أن ما حدث كان تصرفاً صحيحاً فعله " محسن أحمد " معى ليمنع آفة كبرى تصيب من يتعلم أحد فنون السينما ، ألا و هى آفة كسر التسلسل فى ترتيب تلقى المعلومات !
فعلوم السينما و بخاصة التصوير ، علوم مبنية على تسلسل خاص - تراكمى - فى المعرفة ! و لا تطلب لمن يعرف فيه ، أن يجيبك باقتضاب عن معلومات مجردة ، لأنه بذلك سيحشو رأسك بالتشوهات لا بالمعلومات !
إذاً كان " محسن أحمد " محقاً ! و ربما مخلصاً لى أكثر من نفسى !
لم يقصد نهرى ، بل تنظيم حركة إستيعابى ! و هو ما أكدته الأيام بعد ذلك ، حين وقفت معه فى شرفة المعهد ، ذات صباح شتوى مشمس ، ليشرح لى كيف أنجز مشاهد و لقطات الفجر فى فيلمه الرائع ، الحدث " الكيت كات " و كيف حافظ لى تسلسل المونتاجية ( Matching ) فى هذه المشاهد لوناً و تشكيلاً ، كما شرح لى العديد من خبايا التعبيرالدرامى بالضوء ، و هو ما درسته بعد ذلك تفصيلاً تحت اسم ( المعادل التشكيلى المرئى فى الصورة السينمائية ) .
أكتشفت بعد ذلك أن " محسن أحمد " شخصاً رائعاً بالفعل ، فقد رصدت تبنيه للعديد من الزملاء ، يعاون هذا فى مشروع تخرجه ، و ينصح هذا فى صياغة الأفكار ، و أتى يوم قمت فيه باخراج أول فيلم قصير لى ، و دعوته لمشاهدته فى غرفة المونتاج ، و لبى على الفور الدعوة ، و الحق يقال أنه نصحنى نصائح قيمة ، جعلتنى أقرأ بعدها كثيراً فى فن إدارة الممثل و طرق توجيهه نفسياً و تقنياً ، بل وأتسلل لحضور محاضرات " جلال الشرقاوى " بالمعهد العالى للفنون المسرحية بهذا الخصوص !
هذا بالإضافة إلى نصيحته التى لا أزال أضعها نصب عينى عند إضاءة أى من أعمالى
واستخدام جلاتين التلوين به ! فقد قال لى / أن أساس و مهارة المصور تكمن فى قدرته على الرسم بالنور الأبيض العادى ، أما استخدام الجلاتين فلابد و أن تحكمه ضوابط صارمة ، هى ضوابط التعبيير بالألوان و محاكاة تأثير المصادر ، و على الحذر من الإفراط فى استخدامه مستقبلاً ، حتى لايتحول الأمرإلى تعبير سطحى ينطوى على مراهقة فنية !
لقد دفعنى ذلك ايضاً للتبحر فى القراءة عن الألوان ببحرها الكبير و سيكلوجياتها المتعددة التى أكتشفت أنها لا تتنوع فقط بتنوع الدراما بل تتنوع أيضاًبتنوع ثقافات الشعوب و ظروفهم المعيشية بل و الدينية أيضاً !
 |
د . " محسن أحمد " يحتضن معشوقته " الكاميرا " فى أحد أفلامه . |
واصل " محسن أحمد " الإبداع وواصلت الرصد !
لفت نظرى أنه يشارك متبرعاً بأجره لينجح التجربة الأولى لصديقه " سعيد حامد " فى فيلم " الحب فى التلاجة " ، الذى كا أيضاً تجربة فى " الفانتازيا " !
اندهشت من بساطة وعفوية التعبير فى فيلم " الأراجوز " ، و انبهرت بجهاز قياس الضوء الرقمى الذى سارع باقتناءه فى وقت مبكر ليدعم عمله بتكنولوجيا الجديد !
- تخرجت فى " معهد السينما " ، و عملت بالقناة الخامسة فى الأسكندرية ، و أثناء تغطيتى لمهرجان الأسكندرية السينمائى ، قابلنى " محسن أحمد " و جاملنى بأنه يسمع أخباراً جيدة عن عملى و آدائى ، و لكـن لفت نظرى شىء غريب ! لقـد فـوجئت بهـذا المصـور العبقـرى يحمـل بيـن يديـه كـاميـرا " فوتوغرافيا " - لم تفارقه فى أيام المهرجان - بل ـ و وجدته ينطلق من آن لآخر ليقتنص غروباً ما على الشاطىء أو تكويناً صخرياً أعجبه !
هو إذاً لايتردد أبداً فى تلبيه نداء الهواية ، تلك التى تتصارع دائماًمع الإحتراف فى قلب المتخصص ، فإذا انتصرت أضاعته ، أما إذا تصالحت معه فتأكد أنك ستجد فى النهاية نموذجاً كمحسن أحمد ، لايكل ولا يمل من التجريب و محاولة طرق عوالم المجهول !
شاهد أفلام " محسن أحمد " و سترى أنه قد تجاوز مرحلة الإسلوب - التى يسعى كل مصور ليرسى على شاطئها - إلى مرحلة خدمة الأفكار !
هو مخلص لدراما فيلمه أكثر من إخلاصه لإسلوبه !
و هو على استعداد دائم للتجريب والتعامل مع كل فيلم على أنه أول فيلم !
- لقد دعته " القناة الخامسة " كضيف ذات مرة ، و انبريت لتصوير اللقاء معه فى " نادى الصيد " بالأنفوشى .
لم يحاول إطلاقاًالتدخل فى عملى أو توجيهى بأى ملاحظة ، بل كان مثالاً يحتذى به فى التواضع و الرقى ، و عندما انتهى التصوير معه ، شرعت كالعـادة فى تصـوير مقـدمة و نهـاية الحـلقة لمذيعـة البرنامـج ، و كنوع منى فى اقتحام تحفظه ومعرفة رأيه فى عملى ، طلبت مشورته فى شىء أعرفه على وجه التأكيد !
و وجدته و قد انبرى لمعاونتى الفورية ، بشكل أخجلنى !
فقد حمل أحد الكراسى و وجـه ظهـره إلى أحـد المصابيح ، مطلقاً نقوشـه بشكل ضـوئى علـى خلفيـة اللقطة ! و عندما أشرت لأحد مساعدى لتولى الأمر نيابة عنه ، رفض بشدة ! و أصر أن أضبط إطار الصورة كما أشاء معدلاً فى زاوية تلك النقوش بما يتوافق مع رؤيتى للموضوع !
 |
د. " محسن أحمد " يحتضن كاميرا السينما كما يحتضن الجندى مدفعه . |
هذا هو " محسن أحمد " !
- و فى مرة أخرى التقيت به لأصور معه حلقة بمناسبة خطوته الجريئة فى إخراج الأغانى المصورة ، تلك الخطوة التى أثرى بها بحق هذا المجال ، بعد أن أرسى لجعل الشريط السينمائى أساساً فى جودة العمل به ، طارحاً كل دخلاء المهنة أرضاً !
و لمن لا يعرف فـمحسن أحمد هـو أول من أدخل مفهوم الفيديو كليب فى مصر ، و كان ذلك عندما أطلق ل " عمرو دياب " أغنيته الحدث " حبيبى " !
كان " محسن أحمد " قد صاغ عملاً رائعاً لمطربة شابة ، و كان العمل حديثاً حاضراً على موائد المهنيين و التليفزيونيين ، لما أظهره فيه من ولع بالتفاصيل الشعبية داخل الموالد ، و قدرة على استخدام اسلوب اللقطة الواحدة المستمرة فى بعض الأحيان !
كان اللقاء به مع مجموعة عمل الأغنية فى شقة المطربة ، و حدث أن نشب خلاف حاد بين المطربة و مخرجة البرنامج ، تحول مع إستمراره إلى " خناقة " حارة !
و وسط دهشة الجميع من هذا الإحتدام ، و تكييل الإتهامات من قبل المطربة لزميلتى المخرجة ، فوجئت بالمطربة تنظر لى أيضاً - على سبيل الإحتياط - و تتهمنى بأننى قد قمت بالضرورة من التضامن مع زميلتى و شوهت صورتها أثناء القيام بالعمل !!!
و طلبت من " محسن أحمد " القيام للتأكد بنفسه من جودة عملى !
و هنا تحدثت فى هدوء - لم أعهده فى نفسى - و قلت أن إطلاع " محسن أحمد " على عملى أو حتى تقييمه شيىء يشرفنى ! فهو فى البداية و النهاية أستاذى و لا أتحفظ إطلاقاً على نصائحه أو ملاحظاته ثم دعوته ليشاهد ما قمت بتصويره !
و كانت المفاجأة !
لقد رفض " محسن أحمد " الفكرة تماماً ! و أصر على عدم النهوض حتى من مجلسه !
بل و اكتسى و جهه بجدية و هو يوجه كلامه للمطربة و يقول لها بحزم :
- عيب ! عيب تقولى كده !
مرة أخرى هذا هو " محسن أحمد " بضفيرة شخصيته الرائعة ، التى تجمع بين عناصر الإبداع والعلم والأخلاق !
 |
د . " محسن أحمد " يدير تصوير فيلم " الشبح " فى منطقة " الماكس " بالأسكندرية . |
- و توالت نجاحاته و توالى إعجابى بها ، ضربات فنية دقيقة ، يهدى بها مدرسة التصوير السينمائى المصرى ، " الشبح " بمعالجته الإضائية الخاصة ، و " دم الغزال " بما فيه من إجادة فنية فى صنع التباين بين عالم الكبار بصورته الناعمة ذات التناسق اللونى المتناغم و التشكيلات الثرية و الإضاءة الناعمة ، و عالم الشيخ " ريشة " العشوائى ، بما فيه من خشونة و تشكيل حاد يكاد فى بعض الأحيان أن يجرحك ! و بما فيه من معلاجات إضائية ، تفضح " سيكوباتية " شخوصه فى بعض الأحيان !
- ثم فيلمه الرائع " الوعد " ، الذى كان بمثابة شهادة تقدير منحها " محسن أحمد " لنفسه !
 |
د . " محسن أحمد " يدير تصوير فيلم " الوعد " . |
|
|
- لقد فسر لنا " محسن أحمد " فى هذا الفيلم لماذا أصبح اسمه علامة للجودة فى هذا الفن الرفيع !
ففى الفيلم ينتقل بمهارة و حرفية شديدة بين كل أجواء التصوير الممكنة !
تارة بين حارات " القاهرة " ، و تارة أخرى بين أزقة " المغرب " !
 |
د . " محسن أحمد " يجرب بنفسه حركة حرة للكاميرا فى فيلم " الوعد " . |
يصور فى الصحراء و ينفذ المطاردات ! و بين لحظة و أخرى يتحفنا بتتابع إضائى مدهش فى قصر طاغية الفيلم الفاسد " السحراوى " !
لكن أهم ما لفت نظرى - كمصور - هـو هـذا التمكـن الرائـع فـى إضـاءة قصـر خـليـلة البطــل فـى الفيلم - " روبى "- .
انظروا كيف بدا لنا حمام السباحة بداكنته أثناء قفز " آسر ياسين " إليه !
كيف أضاء اللون الأسود بمقدرة و مهارة فى الأغطية و الوسائد بحيث تفصح عن لمعة نسيجها دون أن تفقد خصائصها اللونية !
و كيف مزج إضاءات الخلفية الناعسة بألوانها الحمراء - على البار- بمجموع باقى التشكيل الضوئى فى الفيلا ، لنجد أنفسنا فى النهاية داخل أحد أوكار الشيطان !
 |
د . " محسن أحمد " يقيس الإضاءة فى فيلم " الوعد " . |
|
|
|
 |
شهادة تقدير منحت للدكتور " محسن أحمد " من جمعية الفيلم عن فيلم " الوعد ". |
لقد انبهرت جداً بالفيلم و بمجرد خروجى من دار العرض اتصلت على الفور بمبدع هذا الجمال " محسن أحمد " و سجلت إعجابى و إمتنانى على ما استمتعت به من عمل على كافة المستويات .
- من الذكريات أيضاً التى مرت بى عن " محسن أحمد " ، أنه ذات إحدى دورات " مهرجان الأسكندرية السينمائى الدولى " جاءت جلستى بالمصادفة أمام كرسيين ، يجلس على أحدهما " وحش الشاشة " الراحل " فريد شوقى " و يجلس على الآخر الرائع " محمود عبد العزيز " ، كان الفيلم المعروض هو فيلم " رغبات " على ما أعتقد ، و هو فيلم صور بعضه " محسن أحمد " و أكمل بعضه الآخر مصور آخر - أو العكس - لا أدرى ! ، المهم وجدت " فريد شوقى " يتبارى مع " محمود عبد العزيز " فى إكتشاف ماصوره " محسن أحمد " ، مختاراً بذلك أفضل المشاهد واللقطات مع مدح له ولتمكنه فى الآداء !
و فى مناسبة أخرى جمعنى اللقاء بال " كينج " " محمد منيـر" .
و كنت قد ذهبت إليه مع طاقم عمل لنصوره فى استوديو " ديجيتك " بالقاهرة ، و دار حديث طويل بينى و بين الكينج عن الأغانى المصورة و ذوقه الخاص فيها و وجدته يصطحبنى إلى قاعة بالاستوديو و يرينى آخر أغانيه فى ذلك الوقت " ليلى " التى أخرجها " طارق العريان " و صورها " محسن أحمد " و بينما يتحدث حضر " طارق العريان " و دار حوار حول صعوبات التصوير بالأغنية التى أرادوا أن تبدو كلقطة واحدة مما إستدعى مجهوداً شاقاً و إضافياً على " محسن أحمد " فى إضاءة مساحات شاسعة ستتحرك بها الكاميرا فى أماكن متعددة و عبر تشكيلات متباينة.
و الحق يقال فقد أجللت الرجلين ـ" محمد منير " و " طارق العريان " ـ لما إعترفوا به من فضل و إحتراف ل " محسن أحمد " كان سبباً فى خروج الأغنية بهذا الشكل البديع .
- إن رحلة " محسن أحمد " الفنية ، هى رحلة عظيمة و ثرية ، جديرة بكل الإحترام .
فهو شخص عصامى ، خرج من حى " السيدة زينب " بصدر تنفس عبق التاريخ و الناس ممتزجاً بعبق بخور السيدة !
أخلص لهواية حتى أصبحت مهنة ، و لم يقف ساكناً أبداً أما نداء العلم أو العمل ، حفر اسمه فى تاريخ السينما المصرية بالعرق و المجهود و التجريب ، خاض معارك ضخمة فى إثبات الذات ، و دخل عن طيب خاطر إلى مناطق شائكة احتجب الكثير غيره عن دخولها - إيثاراً للسلامة - كمنطقة " الإخراج السينمائى " ، التى أبدع فيها و لم يقدم أعمالاً هزيلة تقل من قدره ، أو تكون عبئاً بفشلها على من سيخوض تلك التجربة - بعده - من المصورين !
حصل على أرفع الدرجات العلمية فى التخصص - الدكتوراة - و هو فى أوج مجده الفنى و الإحترافى ، ليدلل للأدعياء أن النجاح العلمى لاينفصل عن النجاح العملى ، و إنما هما وجهان لعملة واحدة !
باختصار لقد انتزع " محسن أحمد " احترامه إنتزاعاً !
وأصبح بحق مثلاً أعلى لكل " سينمائى " أو " مصور" يسعى لأن يصبح شيئاً فى هذا المجال !
- تحياتى لأستاذى و محل فخرى ، الدكتور " محسن أحمد " - " أبو ليـلى "- عاشق الطبيعة ، و الساعات الساحرة .
و تمنياتى القلبية له دائماً بمزيد من الإنتاج و الإبداع و أطالبه بدعم المكتبة العربية و السينمائية بكتب ترصد تجربته الضخمة و المثيرة فى الإبداع السينمائى عبر تقنيات إختلفت مع تطورالمهنة والآداء .
ثم أختتم حديثى عنه بدعاء من القلب أن يمنحه الله تعالى الصحة والسعادة ، و التوفيق الدائم .