السبت، 7 أبريل 2012

قلم جاف

-عالم ( الأقلام الجافة ) عالم كبير وعجيـب !
..  قلـم جاف  ..

- إسمحوا لى أن أحدثكم عن صديق إستثنائى و هو " القلم الجاف " !
- بدأت علاقتى بالقلم الجاف - مثل سائر الأطفال ، علاقة متوترة ، تصل إلى البغض والنبذ أحياناً ! فقد كنت لا أزال تحـت سطـوة نعـيم " القلم الرصاص " ، ذلك الذى يتيح لك المسح و التعديل و إخراج صحيح ماتريده ، و هو أيضاً يوفر لك بعضاً من أسباب إقتطاع  الوقت ، أثناء الحصص وآداء الواجبات المدرسية ،  بإعادة بريه و التحجج باضمحلال طوله ، الذى يوقف مسيرة العمل حتى يتوفر نظير له جديد !
- أما " القلم الجاف " فقد كان يحمل فى قسماته صفات النضوج والاحتراف ، فهو آداة الكبار فى الكتابة و بعضهم يحمل أنواعاً باهظة منه للتباهى و التزين ، و هو قاطع فى آدائه ، صارم فى نهائية ما يدونه ، فاضح حين الشطب !
- الحق أن بدايتى معه كانت أشبه ماتكون ببداية جنين يستنشق هواء الحياة لأول مرة مواجهاً أول معارك التغيير ! 


- هناك من أنواع " القلم الجاف " ماهو باهظ و غال الثمن مما يجعله آداة للتباهى والتزين !
- كان خطى به بالغ السوء و كنت أخاف من حمله لما قد يعتريه أحياناً من تسرب لحبره الكثيف - المبقع للملابس - و كنت أسخر منه أحياناً حين يصدر خطاً متقطعاًأو يتوقف عن الكتابة ، رغم توفر حبره !

- كنت أهينه ! و أستمتع بنعته بأرذل صفات الغباء و أعايره مادحاً حبيبى القديم - القلم الرصاص - و ربما أقذف به إلى الحائط - بصبيانية - ليسقط متهشماًو تتناثر اجزاءه فى كافة الأرجاء !
ربما أيضاً أذيقه بعضاً من صنوف العذاب - إذا أصابته علة ما - فأحشوه بالورق لأدعم إستطالة أنبوبه ، أو أعاجلها بالنفخ و النقع فى الماء الساخن ، إذا لم يعجبنى كثافة ماتدره من حبر!

- لكن العلاقة إنتظمت بعد ذلك فى المرحلة الإعدادية و الثانوية و كانت علاقة (برجماتية ) لاتشوبها أى من حميمية ! فقد فرض نفسه على فى المذاكرة و آداء الواجبات و حل الإمتحانات ، لذا فقد إرتبط ذهنياً لدى بلحظات الشقاء و الإجهاد العقلى و النفسى و ظل " القلم الرصاص " صديقى الذى ألوذ به حين تنتابنى لحظات الإبداع لأكتب أو أرسم ، و يصيغ لى ما أشاء مانحاً خطوطى فى الرسم نقاء الثقة ، و ساتراً-عند اللزوم -  عيوبى فى الكتابة و محاولة تلمس اللغة ! 
- من منا لم يكتب بالقلم "الفرنساوى" ( الأكثر شعبية )فى المرحلةالإعدادية والثانوية ! .
- ثم جاءت لحظات التعرف على إمكانيات " القلم الجاف " حين وصلت إلى الدراسة الجامعية فقد وجدت نفسى لأول مرة فى سباق جديد تماماً على يدى ـ ألا و هو ـ سباق كتابة المحاضرات فور خروج كلماتها على لسان الأساتذة خاصة و أن منهم من كان يعتمد إعتماداً كلياً على ما يتفوه به دون كتاب أو مذكرات أخرى مساعدة ! و هنا ... أخفق " القلم الرصاص "  فى معاونتى فقد كان يتأخر فى الإستجابة و حين كان يستجيب يؤدى الكلمات بلون باهت يضيف عبئاً جديداً أثناء إسترجاع تلك المحاضرات 
هذا بالإضافة إلى أنه كان كثيراً ما ( ينقصف ) !

- من هنا رحت أدقق حين أختار" قلمى الجاف " و رحت أتردد كل فترة على المكتبات الكبرى خاصةً تلك المكتبات التى تتواجد دائماً أمام كليات الهندسة .
و فتنت بعالم " القلم الجاف " ذلك الإختراع الغريب فهو أنواع و ماركات ..  خواص و صفات .. بلاد منشأ  و أسعار ، و إكتشفت أن بلدى " مصر "  تلك التى تصنع الحديد و الصلب و تشتهر بصناعة النسيج و العديد من الصناعات الأخرى الناجحة .. لم تنجح ـ إلى الآن ـ فى صناعة " قلم جاف " يشار له بالبنان !!!!! إنما أصبحت فقط عبارة " صنع فى مصر " على أى " قلم جاف " - مع الأسف - عنوان للرداءة و ضعف الآداء !.

- فى سن " القلم الجاف " توجد كرة ، تلك الكرة يتوقف عليها أشياء كثيرة و كبيرة من قيمته ـ فهى تدور فى محور متناه فى الصغر لتلتقم الحبر من داخل الأنبوبة و تعيد طلاء الورق به ـ لذا ـ فإذا إعترى هذه الكرة أى من إعاقة فتأكد أنها ستعتل و ربما تنهى حياة قلمها إلى الأبد !. 
فإذا تعرضت إلى ضغط أكثر مما يتحمل فسيعود بها ذلك إلى ما وراء محورها و تتوقف عن الآداء ـ أما إذا نالها عن طريق الخطأ بعض من المواد الصمغية أو شمعية فإن ذلك سيؤدى أيضاً إلى توقفها عن الآداء حين تلامس تلك الأجزاء الورق نظراً لعدم إلتصاق الحبر بها من الأساس و لعل سرعة دوران تلك الكرة و سلاسة الإستجابة عبر الإتجاهات هى سر أسرار تميز " قلم " عن " قلم " من حيث جمال الخط و سرعة كتابته .

أما العنصر الثانى المهم فهو جودة و نقاء الحبر المختزن داخل الأنبوب فلزوجة هذا الحبر هى أيضاً سر من أسرار سلاسة الكتابة لأن لزوجته كلما زادت كلما إمتنع القلم عن الكتابة ! و كلما قلت كلما كان إمداده لكرته  وفيراً بصورة رائعة  ـ إلا أن ـ اللزوجة تقتضى معها تصميماً من حيث إحكام كرة السن حتى لا تسمح بتسربها إلى خارج القلم و صنع كوارث التلطيخ !. 

- ثم جاءت اللحظات السحرية بينى و بين " القلم الجاف " حيث بدأ يشاركنى فى الإبداع و كانت البداية بمشاركتى الكتابة و الحق يقال أنه كان رفيقاُ حميمياً معى فى السفر و المواصلات يشاركنى فى إصطياد الكلمات و صياغتها فى شكل قصة أحياناً أو خاطر عابر أو حتى مفهوم أو فكرة طارئة و كنت دائماً أهتم بحمله حتى فى عدم و جود الورق .. فالورق تستطيع إلتقاطه من على الأرض -  متبقياً من غلاف قطعة حلوى أو جزء من علبة سجائر ، أما " القلم الجاف " فلا سبيل إليه إلا بوجوده المسبق معك . 
هو آداه جيدة : تضيف صفحات جديدة إلى ذاكرتك تدون و ترتب بها أفكارك حين تستعد للمواجهه ، تلخص بها ما تشاء حين تشرع لضبط و تنسيق أمورك .
و كم من مرات أنقذتنى تدويناتى الصغيرة على قصاصات الورق فهى تحفظ لك عنواناً أو رقم هاتف أو نص ما قاله أحدهم حتى تذكره به إذا كان من معتادى الكذب !. 
لذا فقد أصبح القلم الجاف قريناً و صديقاً و كنت أعانى ممن يطلب إستعارته منى أحياناً و أكون فى أشد حالات الحنق حين أعطيه له و كأننى أقتطع جزءاًمنى فوجوده فى جيبى يشعرنى بأمان من نوع خاص !... و هناك من يستعير " القلم " و لا يعيده لك و يعتبر أن " القلم " لا يساوى سوى قيمته المادية المتمثلة فى قروش زهيدة  فإذا طلبته منه سيعيده إليك مشفوعاً بدهشته و تعجبه من مدى شحك و بخلك !.... 
هو لا يعلم تلك القيمة بين المبدع و أدواته و لا تلك العلاقة التى تحول ذلك الشئ من جماد لا يشعر إلى كائن يشعر و يتنفس كلامك و يرتعش مع إرتجاف يدك !
اعط قلماً ليد فتكتب خطأ و اعط نفس القلم ليد أخرى فسيكتب شيئاً آخر!
إذاً فالنظرية صحيحة حن نمده بسحر الروح فتدب فى خطوطه و تجعله يبوح بما يجول فى خلدنا.

( جلسات متعددة للرسم بالأقلام الجافة )
- إلتقيت بزميل لى فى أكاديميـة الفنـون يجيـد  فـن "التهشـير" و هـوالفنـان " عـلاء الكـومى " فى البداية لم يلفت ذلك إنتباهى إلى أن أتى يوم و ذهبت إلى أحد المعـارض التشكيلية فشاهدت تقنيات مختلفة لتداخل " القلم الجاف " فى الشكل و التلوين .. فبدأت إجراء تجاربى الخاصة بإستخدامه فى محاولة لإيجاد طريق و إسلوب خاص بى فى الآداء لا سيما و أننى أجيد الرسم فى الأساس ...!
و هنا إنفتحت أمامى بوابة سحرية ضخمة فقد بدأ " القلم الجاف " يستوعبنى و يصيغ رغباتى التشكيلية و أصبحت مواظباً على إجراء التجارب و إستنباط الجديد فى تقنيات التعامل معه كوسيلة للآداء التشكيلى . 
لوحة ( الفاعل ) إحدى لوحاتى المنفذة بالقلم الجاف .
و إكتشفت مثلاً أنك حين تذهب إلى البائع و تشترى " قلماً جافاً " رخيصاً عادياً و تجربه ثم تشترى قلماً آخر من نفس النوع و بالطبع من علبة أخرى ... فستفاجئ بإكتشاف خطير - أن لكل " قلم " منهم درجة لون تختلف عن قرينه - و هى ميزة تشكيلية هائلة يعرفها على وجه التأكيد كل من يعشق الرسم مستخدماً الظل و النور !.
و هنا إنطلقت فى صياغة العديد من اللوحات التى تختص فقط بآداء " القلم الجاف " .
و لا تتعجبوا فهى أحياناً ضخمة تتخطى المتر من حيث الطول و أحياناً لا يتخطى طولها العشر سنتيمترات !.
أخذتنى ألوانه المتعددة الساحرة و إكتشفت أن مصانع " الأقلام الجافة " تنتج الكثير من ألوانها الإستثنائية كالون الأصفر أو البنى مثلاً ... و هى ألوان فى الغالب ترفض المكتبات المصرية عرضها أو الإتجار فيها لأنها غير مطلوبة كالألوان المعتادة من أزرق و أسود و أحمر و أخضر!

- تستطيع أن تحول أى ورقة إلى عمل فنى رائع دون أى كلفة سوى إقتناء " قلم جاف " رخيص الثمن لا يتخطى بأى حال الجنيه الواحد !...فقط عليك أن تجرب و تثابر و تثق بنفسك و بمهارتك ـ هذا بالطبع إذا أردت!
- ( الثائر ) إحدى لوحاتى المنفذة -  تماماً - بالأقلام الجافة.


و سترى بعضاً من نماذج عملى المتواضع مع هذا المقال و التى ربما أتعشم أن تفتح شهيتك أما إذا كنت لا تجيد الرسم فثق أن هناك فى رأسك الكثير من الأفكار الجديرة بالتدوين و هى بحاجة لأن تراها بعينيك لتخرجها من مرحلة التصور إلى مرحلة الإدراك .
و هو ما لن يتم إلا " بقلمك الجاف " الحميم الذى لا يفارق جيبك و لا تعيره لأحد !.
أما إذا كنت معرضاً دائماً لإستعارة " الأقلام " فإصطحب معك " قلماً " إضافياً للإستعارة و ضعه فى أىٍ من جيوبك و لا تعول على إختفائه !...


- أما " قلمك الجاف " الحميم فلا يترك أبداً مكانه فى جيبك الداخلى ..... 
     " بجـوار القـلب ".




- لوحة ( رحلة إلى أرض السلام ) وهى أيضاً منفذة بالكامل بالأقلام الجافة .
         

السبت، 31 مارس 2012

أستاذى فايز البـسنلى.

" صغيراً فى المدرسة الإبتدائية"
      أستاذى                                   فايزالبسنلـى

- قضيت خمـس سنوات من طفولتى بالمملكة العربية السعودية ، رافقت فيها مع باقى الأسرة - والدى - الذى كان معاراً للعمل هناك .
و الحق يقال أنى لا أستطيع أن أصف تلك الفترة سوى بأنها كانت من أسعد فترات حياتى ، و أكثرها تأثيراً على أفكارى و سـلوكى و معتـقداتى .
كنـا نقيـم ببلـدة فى منطــقة " سـدير "  هـى مـدينة       " المجمعة " و كنت تلميذاً بمدرسة " الخـالـدية  الإبتدائية " و هى مدرسة واسعة ، بها الكثير من الملاعب و المعامل و الوسائل التعليمية المبهرة التى كانت قمة فى التكنولوجيا العالمية فى هذا الوقت ، و كان من حسن حظى أن ينعم الله على برائد للفصل إستثنائى ، فهـو معلم سـورى الجنسية ، حاصـل على الدكتـوراة فى التربية ! ....... نعم الدكتوراة !!!
كان الأستاذ " فايز البسنلى " - وهذا هو اسمه - تكويناً مثالياً رائعاً لما يجب أن يكون عليه المعلم ! فبالإضافة إلى أناقته ورابطة عنقه الزاهية دائمــــا و سـيارته     " المرسيدس " البيضاء - التى كانت دائماً ما تفصح عن ذوق راق خاصة ، وسط السيارات الأمريكية الضخمة التى كان السـعوديون يفضلون ركوبها .
كان هذا الرجل على درجة عالية جداً من الثقافة الموسوعية ، فهو خبير لايضاهى فى التاريخ العربى و الإسلامى ، مثقف كبير ، جال بين أمهات الكتب العربية و وقر فى قلبه سحر حكيها و نبل و أصالة ما فيها !
هو لا يحدثك إطلاقاً إلا عما يعرف ، أما إذا كان الموضوع مجهولاً بالنسبة له ، أو لا يمتلك ما يكفيه من المعلومات عنه فتأكد أنه سيعتذر لك عن الحديث فيه ، و يعدك وعداً واجب الوفاء بالرد عليه لاحقاً بعد ان يطلع عليه ويدرس جوانبه ! 
 لم تكن سطوته داخل الفصل مستمدة من رهاب العصى أو خوف التوبيخ ـ لكنها ـ كانت مستمدة من تعـويذة إلقائه و سرده و تبسيطه للمعلومات بشكل يحفرها فى العقل و الوجدان .

هو منحاز للعروبة و للقادة المسلمين العظام لفروسيتهم و خلقهم و مبادئهم السمحة رغم قوة بأسهم
هو منحاز للوحدة و للغة العربية و الأدب و التهذيب و فن التعامل . 
الأكثر من ذلك أنك لا تسجل إطلاقاً عليه هفوة أو تلميحة خارج هذا السياق فهو حريص ألا تكون تلميذه فقط - بل - تكون من مريديه و هو يعلم أن النقاء فى صدورنا الصغيرة لا يبحث ببوصلة طهارته إلا عن المثل .

فى إحدى الحصص و كان يدرس لنا مادة العلوم " ضمن مواد كثيرة يدرسها لنا " ....
وقف الأستاذ" فـايز" أمـامنـا فى معمـل الكيمياء حامـلاً أنبـوبة إختبـار بماسـك معدنى فوق لـهب   " بنزن" ..... كان بداخل الأنبوب شمع متكسر و كان يقوم بصهره على حرارة اللهب شارحاً ذلك الـدرس البـدائى الشـهير " تحـويل الأجسـام الصـلبة و السـائلة و الغـازية إلى بعضـهم البعـض "  - و هنا - نادانى الأستاذ " فايز" و أعطانى الماسك لأحمل بنفسى أنبوب الإختبار و أكمل إجراء التجربة لكنى لم أكن أعرف أن الماسك لا يحتاج لأى ضغط كى يحتضن الأنبوب - لذا - فبمجرد إستلامه من يد الأستاذ " فايز" ضغطت عليه فانفرج متخلياً عن أنبوبه التى هوت إلى منضدة المعمل لتتحطم و يتناثر ما بداخلها من شمع سائل فى كافة الأرجاء .

فلنوقف المشهد إلى هنا و لنتخيل لو دار مثل هذا الحدث بين طالب مثلى و مدرس فى المرحلة الإبتدائية داخل إحدى المدارس المصرية ... ترى ما كان سيحدث؟!
هل سيكون رد الفعل : صبغ بعض الوصوف الحيوانية على شخصى ؟
أم سيكون : عقاباً مؤلماً بعصى مكتنزة من الخيرزان ؟
هل سأسمع  كلاماًعن : تحطيمى لعهدة حكومية ! و حرمان زملائى فى المستقبل من إستخدام ما كسرته ؟
هى ردود أتركها لعنان خيالكم و تجاربكم .

و لكن إسمحوا لى بأن أستكمل لكم المشهد و أسرد رده فعل أستاذى العزيز" فايز البسنلى" الذى إبتسم فور تحطم الأنبوب و تلقف من بديهته الحاضرة ما يستكمل درسه !
لقد صاح الأستاذ " فايز " بفرح و قال :
زميلكم " محمد " برهن لكم الآن أن بعض المواد تتحول أيضاً من سائلة إلى صلبة !
ثم نظر لى بامتنان و أنا غارق فى هول ماحدث ، ثم قال :
    - شكراً يا محمد وفرت علينا لمجهود !
و يا للعجب فقد أمر الفصل كله ، أن يصفق لى !

و فى حصة أخرى - كانت عن جغرافيا الوطن العربى -  تطرق الحديث عن " قناة السويس "  و هنا عرض لنا الأستاذ " فايز" فيلماً سينمائياً ملوناً عن " قناة السويس " ......... كان الفيلم مقاس ( 16 ملم ) و هو إنتاج حديث - فى ذلك الوقت - لإحـدى الشركات الإنجليزية الضخمة .
راح الأستاذ " فايز" يشرح عن " قناة السويس " بوله العربى العاشق و راح يتحدث عن مصر بإحترام الواعى ثم إنطلق الفيلم فى سرده ليرينا كيف عبر المصريون القناة فى حرب " أكتوبر " المجيدة  ...
و هنا إنبرى الأستاذ " فايز " و تحدث حديث رفقاء السلاح و كيف كانت حرب أكتوبر ثأراً و مجداً للعرب كلهم .
كانت المدرسة تضم فى تلاميذها العديد من الجنسيات العربية ـ أردنيين ، فلسطينيين ، سوريين ، سودانيين بالإضافة طبعاً إلى السعوديين ـ رغم ذلك لم يكن يحمل الجنسية المصرية ســــــــواى و تلميذ آخر سكندرى إسمه " حسن " .
والحق يقال أن بعد عرض الفيلم بما فيه من ( لقطات مؤثرة لدك الحصون الإسرائيلية بالطيران المصرى و فرد الكوبرى العائم و عبور دباباتنا الواثقة فوقه ) تحولت أنا و " حسن" إلى نجوم بين التلاميذ ، وأصبح لنا مريدينا وقت الفسحة لنروى لهم ما نعلمه ، و ما تأتى به قرائحنا من تصورات طفولية عن حرب " أكتوبر " ـ و لم لا ـ و نحن ملاك الطائرات و الدبابات و قبل كل ذلك { المنتصـــــــــــــــرون } .
لقد كان لشرح الأستاذ " فايز" المصاحب للفيلم بالغ التأثير فى النفوس و كان الفيلم ومضة لفتت نظرى بعد ذلك لشئ هام .. أن فى الحياة وسيلة لها قوة رائعة فى الإتصال و التأثير على وجدان الناس اسمها  " السينما " .

لم أقصد فى حديثى عن الأستاذ " فايز البسنلى " أن أهجو أو أنال و لو من بعيد بالمعلم المصرى فزوجتى معلمة و أعلم جيداً ما يعانيه المعلم المصرى من ضغوط و ظروف تنحت شخصيته و تصيغ تصرفاته ـ لكننى أردت أن ألقى الضوء على نموذج مثالى أثر فى وجدانى كتلميذ تأثيراً إيجابياً عشت به حتى الآن ... فربما ذلك يكون وسيلة لإستقراء ما يجب أن يكون عليه المعلم لدى القائمين على الأمر .

تحياتى إلى أستاذى العزيز " فايز البسنلى " أينما كان !

فإن كنت لا تزال تتنفس هواءنا ، فباقة زهر لك منى !
و إن كنت تعانى من آلام سوريا الحبيبة ، فلعل كلماتى تضمد بعضاً من جراحك !
أما إن كنت فى معية الله ، فربما كلماتى تصوغ جزءاً من رضى يستوجب لك الرحمة !

الجمعة، 23 مارس 2012

البابـلى

      

            . . البابلى . .






- تيقنت حين رأيته للمرة الأولى أننا   
  سنصبح أصدقاء!

  فهذا التدفق المدهش فى حب الحياة ،  
  ومعرفة كيف تكون نداً لها ، كان  
  مثيراً لدهشتى وفضولى ، مستفزاً  
  للإقتراب منه !
  كان بلون بشرته الخمرية و قسماته  الشديدة المصرية ، يقابلك بحفاوة و  
  مرح من يعرفك منذ عشرات السنين ! و هو لا يعطيك الفرصة لتنكر وجوده ، لذا  
  فهو يسارع بإقتحامك و الإستيلاء على قلاع تحفظك ، ثم ينشر جنود كلماته و 
  مرحه فى فضائك فلا تملك إلا أن تشهر فى وجهه رايتك البيضاء ، معلناًقبول 
  تلك الحميمية !
 
  إنه "مجدى البابلى "  ذلك المذيع النجم ، الذى متعه الله بوسامة نفسية و إنسانية 
  قبل أن تكون جسدية ، يمشى بخطوات تكاد لاتلمس الأرض ، تشعر من شدة رفع  
  قامته أن ظهره قد تقوس للخلف فى إباء و شمم و إعتزاز جدى بالنفس ، لا 
  يشوبه أى من غرور ! 

عـرفته فى البداية حين جمعنـا على شاشة القناة الخامسة - { تليفزيون الأسكندرية حالياً } - برنامجاً نقدياً ساخراً يطرح أفكاره فى قالب فكاهى بعنوان " موجة و شمسية " كان قالب البرنامج يعتمد على كسر المعتاد و المتوقع للجمهور فوجدته و هو ذلك المذيع الذى تخرج من مدرسة الإذاعة - الوقورة - متسماً بأهم مؤهلاتها فى صوته الرخيم العميق الذى يأتى من أغوار اليقين ليجلس إلى مشاهدى "الخامسة" كقارئ نشرة ينقل بآدائه و صوته جدية ما يقول ......... يقبل أن يجلس إلى نفس مكتب الأخبار ليقرأ نشرة فكاهية فى وسط شارع أبى قير بين زحام المارة و إلى جواره زميل آخر قارئ نشرة أتى من مدرسة الإذاعة أيضاً و هو " مجدى حسن " و حين ناقشته فى قلقى أن يمس ذلك مصداقيته لدى جمهوره أجابنى فى ثقة بأنه على إستعداد ليفعل أى شئ ليسعد الجمهور حتى لو فاجأه بعكس ما يتوقع فالصدق كل الصدق فى مس القلوب مهما كانت الوسيلة و مهما كان الثمن ! 
و كانت تلك الكلمات هى نقطة ولوجى لاكتشاف شخصيته الساحرة ! فهو شخص أثبتت الأيام و الأحداث بعد ذلك أنه يقـتات نفسياً من إسعاد الآخرين ، حباه الله تعالى بتلك النعمة المدهشة ، أن تتدفق السعادة إلى عروقه حين ينال من بؤس الآخر و يغـتال شجونه مطلقاً أهـازيج الفرح !


حكى لى أحد الأصدقاء عنه : أنه فى ذات يوم إستقل سيارة أجرة ( تاكسي ) ليعود به إلى المنزل - وناهيك عما كان ينقد به سائق ( التاكسى ) من مبالغ تفوق أضعاف أجره المعتاد - إلا أن "مجدى" أوقفه فى الطريق لإبتياع بعض البرتقال ، وبعد برهة عاد له بكيسين مملوئتين بنفس الكمية و من نفس النوع  فأعطاه كيساً واحتفظ بالآخر لنفسه !

أخذ "مجدى" منحناً جديداً فى حياته العمليه ، و هو تنفيذ الإعلانات التجارية ، وحرص على تنويع التعامل و التعاون مع مختلف الزملاء من "المصورين" ، إلى أن أتى اليوم ووجدته يطلبنى للعمل سوياً فى فيلم تسجيلى سيسوق فى إيطاليا للموبيليا المصرية ، و هنا ظهر جانب آخر من سمات "مجدى" الرائعة ، وهو حسه الفنى الراقى والرغبة الحقيقية فى الوصول للدقة و الكمال ، فقد فوجئت به - على غير ما عتدت مع غيره - يطلق لى العنان فى إستئجار ما أشاء من مصابيح و عدسات و أدوات ، فى سبيل الوصول بالعمل للمستوى الذى يعتمده الأوربيون من حيث جودة و نقاء الصورة ، كاسراًبذلك مبدأ التوفير بالميزانية لتحقيق الربح و ساعياً بشكل ما أو بآخر لإسعادى و إمتاعى بالتجربة و - بالطبع - إسعاد عميله بالنتيجة .


هو لا يجادلك فى التقنية ! و لا ينازعك فى فنك و اسلوبك فى العمل ، بل يتلمس طريقه للوصول للأفضل بالتعاون المطلق ! و للحقيقة فقد كان يضيف العديد من لمساته الساحرة ، النابعة من ذوقه الرفيع الذى تميز به دائماً و بقدرته - الشجاعة دائماً - على كسر و تجاوز المألوف ، تلك القدرة التى طالما تجلت حتى فى ملابسه الأنيقة التى تجابه كل ما هو كلاسيكى و معتاد لتصفعه بقوانين الموضة بثورة واثقة  فتراه مصصف الشعر ، لامع الحذاء ،  جرئ الألوان ، و قبل كل ذلك كيف يتناسق هذا الهندام مع روحه وحركاته وعفويته !

الحق أنى كنت أفخر به كواجه أنيقة للقناة الخامسة ، التى عشقت !

كنت أحمل الكاميرا لأشاركه برامجه و كان البشر يتدفق علينا من كل مكان لمجرد رؤيته و الحديث معه !

المراهقات يصرخن أحياناً من فرحة لقائه ، وكان هو مجاملاً ، رفيقاًبالمسنين إذا حدثهم ، لا يرد بكبر أو خيلاء على أى من كان ، حتى لو استفزه أو خرج معه عن قواعد الأدب !

ذات يوم ذهبت لأدعوه كى يحضر حفل خطبتى ، و انتظرت أن يقول لى - فقط - مبروك ! لكنه عاجلنى بإصراره ان يكون ورد السيارة و ( بوكيه ) العروس هدية منه لى ، و وقف بنفسه على تزيين السيارة واضعاً لمساته الخاصة عليها ثم أتى إلى الحفل و انصرف آخره - معى - ليتأكد أن كل شيىء على مايرام !

 
هو يأبى إلا أن يكون رسولاً للسعادة و العطاء .

كان بعد تصوير أى من أعمالنا الخاصة - التى تعددت بعد مرتها الأولى عدة مرات - يصطحب فريق العمل بأكمله للعشاء فى واحد من مطاعم الأسكندرية الفخمة لينهى شقاء يوم العمل الطويل بطعام فاخر و تسامر يزرع السعادة فى قلوب الجميع ! و الحقيقة أن هذا أيضاً - بالنسبة لأى ميزانية - كان خارجاً عن المألوف ! وفى أعمالى المستقلة عنه كنت ألتقى بالعديد ممن عملوا سابقاً معه فيحملونى له بأحر السلامات .

لم يكن " مجدى " جامعاً للمال ، لذا فقد تأخر كثيراً فى إنجاز أشياء ، أصبحت معتادة للأقرانه من حيث السن أوالمكانة ، كالزواج مثلاً أو حتى إقتناء سيارة ! لكنه فجأة قرر أن يستجيب للنصائح التى كان زملائه و أصدقائه يبثونها إلى سمعه ليل نهار بضرورة تكوين مبلغ من المال لضروريات المستقبل و الحياة .

تزوج" مجدى" من زميلة لنا - مخرجة -  تشاركه فى الكثير من صفاته لكنها بالتأكيد أكثر منه ضبطاً لإيقاع الحياة فاستبشرت خيراً لأنه كان يحتاج إلى مديراً مخلصاً  لا ليكبح تهور كرمه الزائد و لكن - فقط - ليوظفه !! 


إصطحب زوجته إلى بلدة خليجية و تمنى الجميع لهما التوفيق ....................!



 رحم الله " مجدى البابلى  " .




فقد فـوجئت بخبر وفاته فى غربته و تجمع كل من فى" الخامسـة" و افترشوا الأرض بصدمة و عدم تصديق ، طقوس و خطوات حالكة و مريرة لإسترداد جثمانه و رجوعه إلى أرض الوطن .......


ضربة عصفت بكل فؤاد أحبه .. و كل عين عشقت إبتسامته .


- جلست أفكر فى عبثية :

هل كان مثل هذا الرجل موجوداً فعلاً ؟ ! هل حدثته و شاركته العمل و الطعام ؟ ! السهر فى شوارع الأسكندرية حين ينام الناس ؟ !
 

مشـدوهاً  ذهبت إلى مسـجد " القـائد إبراهيم " - حملت مصحفاً إلى جوار صديقه الأثيـر  " مجدى حسن " و جلسنا إلى رأسـه نقرأ القرآن ، صلينـا عليه و كل أحبائه مـن أكبر الشخصيات تدعـو له بالرحمة و المغفرة .

كل هذا و أنا لا أزال أسال فى عبثية هل كان حقاً هذا الشخص موجود ؟ 

" فى ثقافتنا المصرية يسمى الشخص النبيل ، الجرئ ، المفعم بالحياة حين يموت شاباً إبن موت ! "

و كان " مجدى " بحق تجسيداً لهذا الشخص !

و أخيراً جاءتنى الإجابة على سؤالى 

حين خرجت على باب مسجد " القائد إبراهيم " فلفعتنى جحافل الناس المحتشدة لتودعه و هى تكبر بإخلاص و يقين ..
و حين شاهدت زميلاتى المذيعات من أراهم فى أبهى مظهر  و هم متشحين بالسواد أدركت أنه كان حقيقة  

لقد كان " مجدى " إنساناًموجودا بالفعل لكننا - حين الصدمات ننكر الحقيقة لنكبح وقعها ! ... همت ركبتى بالإنثناء لتخذل وقوفى ، لكن زميلى " حسن صابر " الذى كان بجوارى - يرتدى حذاؤه إستعداداً للخروج - أمسك بى فى عتاب و أعادنى واقفاً !



    " مجـدى "


لا أستطيع أن أنهى الحديث عنك بكل هذا الحزن ! فأنا بذلك أخونك !


لذا فأنا الآن أستحضرك أمامى و أنت تبتسم و أهدى لك الفاتحة ، لأنك رغم نهايتك الحزينة ستظل دائماً فى قلبى مرادفاً قوياً للسعــــادة ....


 
   

الاثنين، 19 مارس 2012

شقة المصورين


            شقة المصورين   
  
 بدأت حياتى العملية ، مصوراًبالقناة الخامسة -تليفزيون الأسكندرية حالياً - وكان مايشغلنى حين وصلت للأسكندرية الساحرة لأول مرة ، كيف سأقيم بها ؟ وأين سيكون مكان السكن ؟ 
شغلتنى أيضـاً الصحبة ! فأنا من المؤمنين بما قالـه ( جان بول سارتر ) من أن الجحيم هم الآخرون ! وكان حظى السعيد - من وجهة نظرى بالطبع - أنى حيـن رحلت من بلدى - المحلة الكبرى -إلى مدينة القاهرة لدراسة السينما قطنت - وحيداً- فى شقة نملكها فى القاهرة ، و كانت السعادة لدى فى تلك الوحدة التى تتيح لـك الحرية التامة فى كل شىء وأى شيء ، فأنت تملك وقتك وفراشك وطعامك ، تسمع ماتشاء من موسيقى وأغانى تحبها وبإرتفاع الصوت المناسب فقط لحالتك المزاجية ، لايعبث أحد فى كتبك ومحاضراتك أو يضيع أقلامك وادواتك ، إختصاراًلم أجد من يعكر صفوى أويذهب بسلامى النفسى ، وفى حال رغبتى فى التواصل أو التسامر ، كان يحضر لى الزملاء والأصدقاء أو أذهب إليهم ، والحقيقة - لمن لايعرف - أن الدراسة فى معهد السينما كانت لها تبعات كثيرة مؤنسة فى حد ذاتها فنحن دائماً نشاهد الأفلام فى الأمسيات الثقافية والسينمائية أو نتجول فى أحد الأتلييهات لنشاهد وننبهر بالفن التشكيلى بمختلف قوالبه ، أو حتى نتصعلك فى شوارع القاهرة القديمة ، لنشحن طاقاتنا الإبداعية بثراء الناس والأحداث وسحر الأماكن .    
الحقيقة لم يترك الأستاذ / وائل عبد المجيد - رئيس القناة الخامسة فى هذا الوقت - الفرصة أمامى للحيرة، بل بادرنى وأنا فى مكتبه لإتمام إجراء التعيين وأخرج لى مفتاحاً! وحين تعجبت أفهمنى أن مشكلة إقامتى بالأسكندرية محلولة لأن التليفزيون باختصار يستأجر إستراحتين - خصيصاًللمصورين نظراًلندرتهم والحاجة المستمرة وراء إنتداب الكثير منهم من التليفزيون الأم بالقاهرة لاستكمال أعمال التصوير بالقناة.                                     
    وعليه فقد ذهبت للشقة الموجودة بإحدى عمارات الضباط فى شارع المعسكر الرومانى ، وهوشارع من أرقى شوارع الأسكندرية نظراً لأنه يقع بمنطقة رشدى الرائعة سكناً وناساً وخدماتاً أيضاً.                          
  قال لى الأستاذ / وائل أن الشقة يقطن بها ثلاثة من الزملاء الأقدم عملاً بالقناة ، و كان محقاً، لذا فقد أغلقت ذهنى على أن شركائى سيكونوا الثلاثة فقط ! 
ولكن هيهات فبعد إسبوع واحد إستوعبت الحقيقة حيث بدا يتوافد علينا مصورى الإنتداب، و تحولت الشقة إلى محفـل كبير لغرباء عنى لاأعرفهم ! يتضاحكون بأصوات عالية ، يدخنون بشراهة ، ولا يملوا من إسهاب الحديث !   
 كنت أهرب بعد العمل إلى هدوء الجلوس على البحر, أتأمل تلك الأضواء المتلئلئة لسفن الصيد القابعة فى غياهب الأفق ، ولابأس من إحتساء الشاى من أحد الباعة الجائلين ، ولكنى أعترف أن الملل إعترانى بعد مرة أو مرتين وبدأت أتوق للعودة للمنزل لنيل قسط من الراحة ، خاصة مع عناء العمل لساعات طويلة ، مريرة ، طوال اليوم !                
       
  و لكن شقة المصـورين لاتهـدأ ولا تنـام ! الكل يسـهر ويأكل ويشـرب حتى الصبـاح ! والإستعداد لاستقبال اليوم الجديد دون نوم وارد ! تحد غريب للسكون والراحة رغم عنائهم وإجهادهم مثلى ! وكنت أجاهد - فى البداية - لاستقبال النوم وسط صخبهم العارم ، إلى أن فوجئت باعتياد الأمر بل والتحول إلى مذهبهم فى النهاية - ( لاشىء أهم من أن تحيا وتنعم بالصحبة والسهر ) !     
كانت تلك هى بداية إستقبال شقة المصورين فى عالمى المتواضع الهادىء ، التى مالبثت بعد ذلك وأن إكتشفت أنها كنز إجتماعى وإنسانى فريد ! فقد كانت تلك الشقة بمثابة منتدى رائع يجمع بين زملاء  جمعتهم الدراسة والمهنة الواحدة ، رغم إختلافاتهم الجوهرية فى كل شيىء ، الثقافة ، الطبقة الإجتماعية ، الميول و التصرفات ، مسقط الرأس و العشيرة و أحياناً ايضاً الديانة !                         كانت شقة المصورين صورة مصغرة من جمهورية مصر العربية ، بما فيها من زخم وتباين وأحياناًأيضاًتناغم ! لعل ذلك كان مصدر الصوت العال فى إحتدام الحوارات بعد منتصف الليل ، وهو أيضاً مصدر القهقهات المتضافرة حين الإتفاق ! أتى كل منا بأصدقائه من خارج العمل ليجالسه و يتعرف عليه الآخرون ، دعم كل منا الآخر بالنصيحة والتجربة ، و اقتسمنا الطعام - أى طعام - و أى بقايا - إذا ما خلت الثلاجة منه !                                            
  رصد كل منا حياة الآخر وأصبح يعرف عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه ! كيف يحب ؟ و كيف يكره ؟! و أصبحت الشقة دولة لها جنسية و تأثيرًا فى العمل ، تحيز من فيها لبعضهم البعض و دعم كل منهم الآخر فى كل شيء وسعى لاحتواء مشاكله و حلها فى حينها بأى ثمن او مجهود !                     
بالشقة كانت بدايات لقصص حب تنتهى بالفشل كثيراً و بالزواج أحياناَ و كانت أيضاً نادياً للتعرف على مهاراتنا الفردية فى العديد من الأشياء المدهشة ، فهذا له خبرة بالتحف و المزادات ، و هذا له باع فى التسويق و الإعلانات التجارية ، و هذا له باع فى الرسم و الكتابة ، فنانون و شعراء و تجار و أيضاً تافهون فى بعض الأحيان ، ذلك كان العالم فى تلك الشقة التى أثرت حياتنا و ربطتنا بها بقوة و قسوة أحياناً للدرجة التى كانت تعود باحدهم من شقته بعد الزواج ليواصل السهروالحديث و ربما البيات أيضاً حين تغضب الزوجة أو تهرع لبيت أهلها للولادة !                                                                    
لو دخلت فجأة فى أحد حوارات العمل فتأكد أنك لن تفهم شيئاً من الحديث إذا لم تكن متخصصاً ! أما إذا سولت لك نفسك وحضرت مشاهدة من فى الشقة لأحد الأفلام ، فثق أنك قد تخليت تماماً عن رأسك ! فأنت فى حارة المتخصصين ممن ينتقدون حركة الكاميرا و المخرج و السيناريو ، و أحياناً مدى حسن البطلة وكمية ماكشفته من مفاتنها المندثرة !  
 فجأة إختفى كل من فى الشقة ، هذا تزوج ، و هذا رحل فى عقد للسعودية ،و هذا نجح فى النقل لقناة أخرى ، و ضللت وحدى فترة قبل أن أبتاع شقة جديدة لنفسى كنواة للإسقلال و الزواج فى المستقبل ، و رغم إنتقالى للإقامة فى شقتى إلا أن مفتاح شقة المصورين ظل معى ، و ظللت أتردد عليها من آن لآخر ، أجلس وسط صالتها فى سكون ليرن صدى أصوات زملائى فى أذنى قادماًمن الأيام الخوالِ!
 و حين قابلنى بواب العمارة ليخبرنى بموعد تسليم الشقة لصاحبها - نظراً لعدم تجديد التعاقد معه من قبل التليفزيون - نقدته مبلغاًمحترماً و طلبت منه إحضار من يعدها ترتيباً و تنضيفاً لتصبح كعروس تذهب إلى زفافها ، و ذهبت بنفسى مرة أخرى للتأكد من تكريمها بالشكل المناسب لها ، و فى تلك المرة ودعتها بقراءة الفاتحة  فى كل غرفها كل غرفة  على حدة ، و انتهيت بالصلاة فى صالتها  الواسعة ركعتين شكراً لله على مامنحنا فيها من سعادة و توفيق و سلام كنت أشعر أنى لا أودع جدراناً و أركاناً - بل - أودع جزءاً عزيزاً مفعم بالذكريات من حياتى ، الحقيقة كنت أودع وطن !             

السبت، 17 مارس 2012

إفتتاحية التدوين.

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه بمشيئة الله تعالى مدونتى الخاصة - لمس الوتر - وإن شاء الله تكون مكاناًفاعلاً لنشر العديد من إنتاجاتى .